فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}
لما ذكر سبحانه أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة.
وأن منهم التابعين لهم.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ {والأنصار} بالرفع على {والسابقون} وقرأ سائر القراء من الصحابة فمن بعدهم بالجرّ.
قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه؛ لأن السابقين منهم يدخلون في قوله: {والسابقون} وفي الآية تفضيل السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، وهم الذين صلوا القبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة، أو الذين شهدوا بيعة الرضوان.
وهي بيعة الحديبية في قول الشعبي، أو أهل بدر في قول محمد بن كعب، وعطاء بن يسار، ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها، قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون، ثم البدريون؛ ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
قوله: {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه {الذين اتبعوهم} محذوف الواو وصفًا للأنصار على قراءته برفع الأنصار، فراجعه في ذلك زيد بن ثابت، فسأل أبي بن كعب فصدّق زيدًا، فرجع عمر عن القراءة المذكورة كما رواه أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، ومعنى {الذين اتبعوهم بإحسان}: الذين اتبعوا السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، وهم المتأخرون عنهم من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة، وليس المراد بهم التابعين اصطلاحًا، وهم كل من أدرك الصحابة ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، بل هم من جملة من يدخل تحت الآية، فتكون {من} في قوله: {مِنَ المهاجرين} على هذا للتبعيض، وقيل: إنها للبيان، فيتناول المدح جميع الصحابة، ويكون المراد بالتابعين: من بعدهم من الأمة إلى يوم القيامة.
وقوله: {بإحسان} قيد للتابعين: أي والذين اتبعوهم متلبسين بإحسان في الأفعال والأقوال اقتداء منهم بالسابقين الأوّلين.
قوله: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} خبر للمبتدأ وما عطف عليه، ومعنى رضاه سبحانه عنهم: أنه قبل طاعاتهم وتجاوز عنهم، ولم يسخط عليهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} بما أعطاهم من فضله، ومع رضاه عنهم فقد {أَعَدَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} في الدار الآخرة.
وقرأ ابن كثير {تجري من تحتها الأنهار} بزيادة {من}.
وقرأ الباقون بحذفها والنصب على الظرفية، وقد تقدّم تفسير جري الأنهار من تحت الجنات، وتفسير الخلود والفوز.
قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الأعراب منافقون} هذا عود إلى شرح أحوال المنافقين من أهل المدينة، ومن يقرب منها من الأعراب.
{وممن حولكم} خبر مقدّم، و{من الأعراب} بيان، وهو في محل نصب على الحال، {ومنافقون} هو المبتدأ.
وقيل: وهؤلاء الذين هم حول المدينة من المنافقين هم: جهينة ومزينة، وأشجع، وغفار، وجملة: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق} معطوفة على الجملة الأولى، عطف جملة على جملة.
وقيل: إن من أهل المدينة عطف على الخبر في الجملة الأولى، فعلى الأول: يكون المبتدأ مقدّرًا: أي ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، وعلى الثاني: يكون التقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا، ولكون جملة {مردوا على النفاق} مستأنفة لا محل لها، وأصل مرد وتمرّد اللين والملاسة والتجرّد، فكأنهم تجرّدوا للنفاق، ومنه: غصن أمرد: لا ورق عليه، وفرس أمرد: لا شعر فيه.
وغلام أمرد: لا شعر بوجهه، وأرض مرداء: لا نبات فيها، وصرح ممرّد: مجرّد؛ فالمعنى: أنهم أقاموا على النفاق وثبتوا عليه ولم ينثنوا عنه.
قال ابن زيد: معناه لجوا فيه وأتوا غيره، وجملة: {لاَ تَعْلَمُهُمْ} مبينة للجملة الأولى، وهي مردوا على النفاق: أي ثبتوا عليه ثبوتًا شديدًا، ومهروا فيه حتى خفي أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف سائر المؤمنين؟ والمراد عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم لا من حيث الجملة، فإن للنفاق دلائل لا تخفى عليه صلى الله عليه وسلم، وجملة: {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} مقرّرة لما قبلها لما فيها من الدلالة على مهارتهم في النفاق ورسوخهم فيه، على وجه يخفى على البشر، ولا يظهر لغير الله سبحانه لعلمه بما يخفى، وما تجنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر.
ثم توعدهم سبحانه فقال: {سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} قيل: المراد بالمرّتين: عذاب الدنيا بالقتل والسبي، وعذاب الآخرة، وقيل: الفضيحة بانكشاف نفاقهم، والعذاب في الآخرة؛ وقيل: المصائب في أموالهم وأولادهم، وعذاب القبر.
وقيل: غير ذلك مما يطول ذكره مع عدم الدليل على أنه المراد بعينه.
والظاهر أن هذا العذاب المكرّر هو في الدنيا بما يصدق عليه اسم العذاب، وأنهم يعذبون مرّة بعد مرّة، ثم يردون بعد ذلك إلى عذاب الآخرة، وهو المراد بقوله: {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} ومن قال: إن العذاب في المرة الثانية هو عذاب الآخرة، قال معنى قوله: {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} أنهم يردّون بعد عذابهم في النار، كسائر الكفار إلى الدرك الأسفل منها؛ أو أنهم يعذبون في النار عذابًا خاصًا بهم دون سائر الكفار، ثم يردون بعد ذلك إلى العذاب الشامل لهم ولسائر الكفار.
ثم ذكر سبحانه حال طائفة من المسلمين وهم المخلطون في دينهم فقال: {وَءاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} وهو معطوف على قوله: {منافقون}: أي وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة قوم {آخرون}، ويجوز أن يكون آخرون مبتدأ، واعترفوا بذنوبهم صفته، و{خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا} خبره، والمعنى: أن هؤلاء الجماعة تخلفوا عن الغزو لغير عذر مسوّغ للتخلف، ثم ندموا على ذلك، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة كما اعتذر المنافقون، بل تابوا واعترفوا بالذنب، ورجوا أن يتوب الله عليهم.
والمراد بالعمل الصالح: ما تقدّم من إسلامهم وقيامهم بشرائع الإسلام، وخروجهم إلى الجهاد في سائر المواطن.
والمراد بالعمل السيء: هو تخلفهم عن هذه الغزوة، وقد أتبعوا هذا العمل السيء عملًا صالحًا، وهو الاعتراف به والتوبة عنه، وأصل الاعتراف: الإقرار بالشيء.
ومجرد الإقرار لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي، والعزم على تركه في الحال والاستقبال، وقد وقع منهم ما يفيد هذا كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
ومعنى الخلط: أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر، كقولك: خلطت الماء باللبن، واللبن بالماء.
ويجوز أن تكون الواو بمعنى الباء، كقولك: بعت الشاة شاة ودرهما: أي بدرهم، وفي قوله: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} دليل على أنه قد وقع منهم مع الاعتراف ما يفيد التوبة، أو أن مقدّمة التوبة وهي الاعتراف قامت مقام التوبة، وحرف الترجي وهو {عسى}، هو في كلام الله سبحانه يفيد تحقق الوقوع؛ لأن الإطماع من الله سبحانه إيجاب لكونه أكرم الأكرمين {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: يغفر الذنوب ويتفضل على عباده.
قوله: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} اختلف أهل العلم في هذه الصدقة المأمور بها، فقيل: هي صدقة الفرض، وقيل: هي مخصوصة بهذه الطائفة المعترفة بذنوبها؛ لأنهم بعد التوبة عليهم عرضوا أموالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، و{من} للتبعيض على التفسيرين، والآية مطلقة مبينة بالسنة المطهرة، والصدقة مأخوذة من الصدق، إذ هي دليل على صدق مخرجها في إيمانه.
قوله: {تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا} الضمير في الفعلين للنبي صلى الله عليه وسلم: أي تطهرهم وتزكيهم يا محمد بما تأخذه من الصدقة منهم.
وقيل: الضمير في {تطهرهم} للصدقة: أي تطهرهم هذه الصدقة المأخوذة منهم، والضمير في {تزكيهم} للنبي صلى الله عليه وسلم: أي تزكيهم يا محمد بالصدقة المأخوذة، والأوّل: أولى لما في الثاني من الاختلاف في الضميرين في الفعلين المتعاطفين؛ وعلى الأوّل: فالفعلان منتصبان على الحال، وعلى الثاني: فالفعل الأوّل صفة لصدقة، والثاني: حال منه صلى الله عليه وسلم.
ومعنى التطهير: إذهاب ما يتعلق بهم من أثر الذنوب، ومعنى التزكية: المبالغة في التطهير.
قال الزجاج: والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم: أي فإنك يا محمد تطهرهم وتزكيهم بها على القطع والاستئناف، ويجوز الجزم على جواب الأمر.
والمعنى: أن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم.
وقد قرأ الحسن: بجزم {تطهرهم}.
وعلى هذه القراءة فيكون {وَتُزَكّيهِمْ} على تقدير مبتدأ: أي وأنت تزكيهم بها.
قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادع لهم بعد أخذك لتلك الصدقة من أموالهم، قال النحاس.
وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه، أن الصلاة في كلام العرب: الدعاء، ثم علل سبحانه أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بالصلاة على من يأخذ منه الصدقة فقال: {إِنَّ صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ} قرأ حفص، وحمزة، والكسائي {صلاتك} بالتوحيد.
وقرأ الباقون بالجمع، والسكن: ما تسكن: إليه النفس وتطمئن به.
قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} لما تاب الله سبحانه على هؤلاء المذكورين سابقًا.
قال الله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} أي: غير التائبين، أو التائبون قبل أن يتوب الله عليهم ويقبل صدقاتهم {أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة} لاستغنائه عن طاعة المطيعين، وعدم مبالاته بمعصية العاصين.
وقرئ: {ألم تعلموا} بالفوقية، وهو إما خطاب للتائبين، أو لجماعة من المؤمنين، ومعنى: {وَيَأْخُذُ الصدقات}: أي يتقبلها منهم، وفي إسناد الأخذ إليه سبحانه بعد أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بأخذها تشريف عظيم لهذه الطاعة، ولمن فعلها.
وقوله: {وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} معطوف على قوله: {أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} مع تضمنه لتأكيد ما اشتمل عليه المعطوف عليه: أي: أن هذا شأنه سبحانه.